رسالة من امرأة غير حاقدة
فتحتُ صندون البريد، تلمستُ جوفه بيدي. شئٌ ماعلق في رؤوس أصابعي.. كان مغلفاً معنوناً باسمي ورقمي.. قلّبتهُ عدة مرات على الجانبين، لم أهتدِ إلى شىءٍ يدلّني إلى مصدره.. دسستُه في جيبي وعدتُ به سريعاً إلى المنزل، تنتابني هواجس كثيرة.. ترى.. من أرسلها!! تهالكتُ إلى أقرب مقعد في غرفتي بعد أن أغلقتُ الباب ورائي بإحكام. فضضتُ الرسالة بأصابع متشنجة، ورحتُ أقرأ.
صديقي العزيز...
نسماتُ الليل منعشة عذبة، الربيع يطرق الأبواب بخجل، والشتاء يودّع الحياة آسفاً... براعم الأشجار ووريقاتها شقّت إهاب الأغصان، ومدّت أعناقها الطرّية في محاولة لاستطلاع الكون.. وحيدةً أطرق بنعليَّ حجارة رصيف الشارع الرئيس، الذي يحتضن الحديقة العامة الواسعة ويلتفُّ حولها، وقد احتواني شعورٌ عارم بعذوبة الطبيعة وجمالها، ورغبةٌ طاغية في المرح والانطلاق بلا حدود.
فجأة سمعتُ وقع خطوات تقترب منّي.. ازداد الصّدى.. التفتُّ إلى الوراء. طالعني وجهٌ مألوف لديَّ، أو لعلّي تخيلتُه هكذا. حدّقتُ فيه بشراهة، خفّفتُ من تواتر خطواتي، حتى كدتُ أتوقّف. غرستُ ابتسامتي في وجهه، تنبّه إليّ، التفتَ نحوي بكامل جسده.. كان وجهاً لاأعرفه، لكنه يوحي لمن ينظر إليه أنه يدخل القلب ويرتبط معه بصداقة حميمة.. اتّسعت ابتسامتي وازداد عمق المباغتة لديه، وعندما أحسستُ أنّ الحرج أصبح سيّدَ الموقف، اعتذرتُ منه بمودّة هامسة، وعدتُ أتأمل عذوبة الربيع وأشجار الحديقة الشاسعة.
قد تعجب، صديقي العزيز وتتساءل.. لماذا حدّقتُ فيه وابتسمت له؟؟.. لماذا توقفتُ قبالته؟؟.. لماذا جررتُهُ لمثل هذا الموقف المحرج وأنا لاأريد الدخول معه في حديث أو حوار؟؟ أجيبُكَ صديقي العزيز: بأنني خلتُه بادئ الأمر أنت.. نعم، تخيلتُكَ تسير ورائي.. تنهل مثلي من عذوبة الربيع وإيحائه الرقيق، فاستدرتُ إليك بكامل جسدي وروحي... لاتعجب أكثر، فأنا أعرف وجهك، أعرف قامتك، أعرف حركة ذراعيك وكفّيك.. صوتُكَ، منذ زمن بعيد يرنُّ في أذنيّ فيملؤهما نشوة وسعادة.. إلاّ أنك لاتعرفني. يعذّبني أننا لم نتقابل. ولكنني قابلتكَ مراراً وأنت تحيي أُمسية أدبيّة، وتلقي على جمهورك قصّة قصيرة. منذ سنوات بعيدة وأنا ألتقيكَ من جانب أحاديّ، وكانت تلوح في داخلي أسئلة كثيرة تراود ذهني وروحي. كنتُ أتمنى أن أطرح أسئلة متشابكة تحيا في داخلي إلا أنّني لم أفعل..
بعد أمسية من أمسياتك القصصية، استبدّت بي شجاعة جميلة. قررتُ أن أتّصل بك. شئٌ مافي داخلي دفعني بحزم لاتخاذ هذا القرار. امتدّت يدي إلى جهازالهاتف وابتدأت في التنفيذ، يؤلمني أنني أعرفك ولاتعرفني. وجاءني في صوتك المتميز، حملتهُ لي أسلاك الهاتف رصيناً هادئاً. انطلقت الكلماتُ من حنجرتي رزينةً واثقة تخبركَ بأنني مستمعةٌ قارئة تودُّ طرح بعض الأسئلة. رحّبتَ بذلك، وبكلمات مقتضبة تخالطها خشونة أعهدها فيك. قلتَ: ابتدئي.
سألتك: هل ابتسامتك الدائمة المرسومة في عينيك ووجهك نابعة من داخلكَ، أم أنها طريق للوصول إلى قلوب القرّاء والسامعين، وتفرضها طبيعة المهنة؟؟
ردّدْتَ عليَّ بلا تلكؤ: بطبيعتي أحبّ الابتسام، وأتمنّى لو أستطيع أن أزرعَ الفرح في كل العيون والنفوس...
قلتُ متعجلةً: وهل نجحت في تحقيق أمنيتك؟؟
جاءَني صوتُك عميقاً: نجحت إلى حدٍّ كبير، على الرغم من أنّني في أكثر الأحيان أراني عاجزاً عن زرع الضحك والفرح في أعماق نفسي . يجلدني الحزن والألم بلاهوادة، وأمزّق نفسي في انتظار عودة الفرح من جديد.
بادرتُكَ وقد أعجبني الردّ: وهل تحسُّ وأنت تخاطب سامعيك باتّحادكَ معهم؟؟..
أجبتني بعد فترة صمت طويلة: أحياناً أحسُّ بأنني أخاطب الناس جميعاً، وأحياناً أخصُّ نفسي. لكن وراء كل قصة أكتبها، امرأةٌ تحيا في ثنايا نفسي وكلماتي... سادَ بيننا صمتٌ مرهف. أعرفٌ أنك مازلتَ في ربيع العمر، وأنك لم تتزوج بعد. فمن تكون تلك المرأة؟؟!!.. ثقبتُ جدار الصّمت الثقيل. قلتُ لك: أعتذرُ إذا كنتُ قد أثقلتُ عليك بأسئلتي، سأنهي المكالمة الآن. لكن، هل تسمح لي باتّصال آخر إذا راودتني أسئلة جديدة؟؟
قلتَ لي: يسعدني ذلك.
شعرتُ بالبسمة تتألق مجدّداً في عينيكَ وصوتك، الأمرُ الذي دفعني للابتسام من أعماقي، على الرغم من أنني كنتُ أريدُ للحديث منحىً آخرَ، يرضي أحاسيسي وينعشُ تطلعّاتي الحارّة .
شكرتك على تلك المكالمة اللطيفة والمؤلمة، وقبل أن تغادر السمّاعةُ كفّي، ندَّ عنّي سؤال مفاجىء: لقد نسيتُ أن أسألكَ عن اسم المرأة التي تحيا وراء كل ماتكتب.
أجبتني معابثاً: لاأعرف اسمها.. ولكنني أطلق عليها أسماء متعدّدة.. ليلى.. مريم.. ميسون.. دعد.. فأنا أحب الأسماء الموحية القديمة... وأردفتَ قائلاً: الأسماءُ لاتهم. يكفي أنها امرأة رائعة.
ضحكتُ دون قصد منّي. شعرتُ بالصّقيع يغزو مفاصلي، أجبتكُ بعد صمت: لايهم. عذراً لإزعاجك.
أجبتني: اتّصلي بي متى شئتِ. فأنتِ كما يبدو إنسانة ذكيّة ، يسرّني أن أسمع رأيك الناقد فيما أكتب وألقي.
قلتُ والفرحةُ تغمرني: انتظر منّي نقداً لاذعاً... إلى اللّقاء.
صديقي العزيز...
ماتزال تلك المكالمة، على الرغم من قساوتها على امرأة مثلي، مطبوعةً في مخيلتي، تملأ أذنيَّ ونفسي حرفاً حرفاً.. وماأزال أذكر أنني منذ تلك الليلة أصبحتُ متعلقة بك أكثر، ألوبُ مع نفسي مفتّشة عن قصصك، أحضرُ كلَّ أمسياتك. أجلسُ في الصفِّ الأول من المستمعين، تراني دون أن تعرفَني. يؤلمني ذلك جداً، حتى بدأتُ أحسُّ بأنك تخاطبني وتحدّثني وحدي، وكم ساقتني أوهامي لأتخيلّ أنّ اسمي هو ليلى أو مريم أو ميسون. ولكن عندما أعود وقد هدّني الإعياء والسهر كلَّ ليلة إلى عالمي الخاصّ ومكنوناتي الداخلية، أدركُ عمق السراب الذي أتصوّره وانتظره. أصحو إلى سعةِ الهوّة بيننا. فأنت شابٌّ مقبلٌ على الحياة، وأنا ألامسُ خريف العمر. أيقنُ أنَّ لك ليلاك، ولي من الحياة أوراقها الصّفر المتساقطة، وأنه لامكان لي في عالمكَ الخاص أكثر من قراءة أو استماع.
لكن مع مرور الأيام أصبحتَ أنت ياصديقي العزيز تتصلُ بي دون أن تعرفني، وتطلب منّي الحديث. كنتَ رقيقاً، سائغاً، عذباً. وكم كنتُ أتمزّقُ من الداخل وأنا أتكلّف الهدوءَ والوقار. بينما أحاسيسي وعواطفي تهفو إلى قول كلمة رقيقة مجنّحة كتلك التي كنتَ تطلقُها على مسامعي فتذيبني. ومع ذلك أرفضُ الانصهار لأنني لاأريد أن أخدش بمشاعري وكلماتي تلك التي أحسدها سواء كان اسمها ليلى أو مريم أو دعد أو ميسون. ولاأقبل وأنا الإنسانة التي تحبُّك ولاتعرفها أن أسيءَ إليك. بل قرّرتُ أن أتماسك ولو على حساب حبي وتدمير سعادتي.
صديقي العزيز...
لم أكن أبغي أن أفضي إليك بأحاسيسي. لكنّها انفجرت دون قصد منّي وعطّرت حياتي وكلماتي. ولأنني أخشى أن يتتالى الانفجار، قرّرتُ الابتعاد عن عالمك الخاص على الرغم من أنَّ إحساسي بك يغتصبني دوماً. قرّرتُ أن أودّع خريفي، وألجَ بوّابة الشتاء الجليدي المحنّط. هناك لايشعر بي أحد. ويكفيني ألماً أن أعيش في زنزانة معتمة، مع أنني بحبّي لك وأنت لاتعرفني، لا أرتكب جريمة ولاإثماً، بل أمارسُ حقّاً طبيعياً من حقوق الإنسان.
صديقي العزيز...
هل المرأة التي تعلن حبَّها ورغبتها آثمة؟؟!! أيتوجّبُ عليها دوماً أن تعاني الحرمانَ دون أن تجرأ على الشكوى منه؟؟!! أمحكومٌ عليها أن تكون نهايةُ مطافها أن تقبع في زنزانة الصقيع الأبدي.؟؟!!..
هكذا يقولون!!. لذا فقد فضّلتُ أن ابتعدَ عنك وأخنقَ حبَّكَ في زنزانة الشتاء، حيث أتعايشُ مع وحدتي وأحلامي المتلاشية.
صديقي العزيز...
إذا وصلتكَ رسالتي، فلا تستغرب. لقد آثرتُ ألاّ أبوحَ لكَ بمشاعري إلاّ بعد سنوات طويلة كي أتحوّلَ في نظرك إلى مجرّد ذكرى.
إنسَ رقمي. وشكراً لأنك لاتعرف اسمي، ولاتعرف وجهي. وحتى لاتظلَّ عاتباً متسائلاً حائراً. إذا أردتَ أن تزورني فإليك عنواني
الشارع الرئيس -زنزانة الشتاء
التوقيع :امرأة غير حاقدة